حقيقة عندما يقارن المرء بين هذا وبين ما جاء في القرآن؛ لا نستطيع أن نعبر بل ينبغي لنا أن نستعير ما عبر به علماؤنا الأجلاء عن الخطيئة التي حدثت من داود عليه السلام, وجاءت في القرآن، ليست النظرة الإسلامية نظرة تاريخية عن رجل أخطأ أو لم يخطئ, وماذا أخطأ؟ الأمر أعظم من ذلك الأمر -وقد شرحناه ولله الحمد بالتفصيل في مقام التوبة في الكلام عن التوبة بشرح
العقيدة الطحاوية- أقول: الأمر يتعلق بأمر عظيم جداً, ويتعلق بي وبك وبكل مؤمن على وجه الأرض، وهو: ماذا نفعل إذا وقعنا في خطيئة؟ وهل يكون حال الإنسان قبل الخطيئة أعظم أو حاله قبلها؟ وكيف يمكن تدارك الإنسان إذا أخطأ؟!حالة طبيعية بشرية يخطئ كل إنسان فيقع فيها، هذه المعاني الروحانية العظيمة تفقد رونقها؛ بل والعياذ بالله تصبح أشنع من أن تذكر إذا ارتبطت أو ذكرت على ما ذكر في العهد القديم، أما في كتاب الله الحكيم، الذكر المبين كما بين الله سبحانه وتعالى، الخطيئة واضحة لا علاقة لها بزنا ولا فحشاء, القضية هي أن الله سبحانه وتعالى جعل داود عليه السلام خليفة -هو ملك؛ لكن خليفة أشرف- وجعله قاضياً, وأمره أن يحكم بين الناس بالحق، فكان خطؤه: أنه لما ابتلي وجاءه الملكان وتسورا عليه المحراب على أنهما خصمان؛ فظن أنهما رجلان من بني إسرائيل؛ يدعي الأول أن لأخيه تسعاً وتسعين نعجة وأن له نعجة واحدة وأنه أخذ منه النعجة.. فجاء الخطأ من داود عليه السلام أنه تعجل في الحكم, فقال كما جاء ذلك في القرآن: و((
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه))[ص:24].القضية: كيف صاحب التسع والتسعين يأخذ من صاحب النعجة؟! هل هذا موافق للشرع؟ لا؛ لأن الشرع لا ينظر إلى ذلك؛ بل قال الله تبارك وتعالى: ((
إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا))[النساء:135], ولمَ لا يكون رجل له مئة نعجة ويأتي واحد ويأخذ منها نعجة! إذاً كان عليك يا داود وقد جُعلت حكماً وخليفة وقاضياً تحكم بشرع الله وبالعدل؛ ألا تعجل في الحكم, وأن تستمع إلى الطرف الآخر، فإذا أثبت الطرف الآخر المدعى عليه أن المائة له يكون هذا هو الظالم, وهذا هو السارق، فلا يتعدى الأمر شيئاً من ذلك على الإطلاق؛ لكن لما علم أنه فعلاً استعجل في الحكم وأخطأ، ((
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ))[ص:24].وأصبح هذا درساً روحياً عظيماً, ودرساً إيمانياً من دروس الفقه الإيماني التي يتكلم عنها السلف الصالح، وقد قلنا أن الصحيح ما رجحه العلماء: أن داود عليه السلام كان بعد هذه الخطيئة أفضل منه قبلها؛ لأنه اتعظ واعتبر واتبع أمر الله تبارك وتعالى، وكل واحد منا إذا وقع في خطأ أو وقع في خطيئة فاتعظ واعتبر وتاب، فإن حاله يكون أفضل بإذن الله تبارك وتعالى، وقد رددنا -فيما سبق- على بعض المزاعم
الصوفية الذين يقولون: إن الله تعالى قال: يا داود! أما الذنب فقد غفرناه, وأما الود فلا يعود. وقلنا: إن هذا باطل؛ لأن الله تعالى يقبل توبة العبد إذا تاب؛ بل إنه عز وجل يقول: ((
إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ))[الفرقان:70], فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنه يبدل السيئات حسنات بعد التوبة لي ولك ولكل إنسان إذا تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فكيف بنبي من الأنبياء؟! والحمد الله أن الأمر لا يتعدى أن يكون تعليماً وتأديباً من الله تبارك وتعالى، وحدث مثله للنبي صلى الله عليه وسلم في ((
عَبَسَ وَتَوَلَّى ))[عبس:1]، وحدث مثله في موضوع الأسرى، وحدث مثله للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: ((
وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ))[النساء:105].فهذه تقع, وهذه من باب التوجيه, ومن باب رفع الدرجة، ومن باب أن يبين الله سبحانه وتعالى أنه لو وكل البشر إلى أنفسهم لما كانوا شيئاً، وحتى الأنبياء الكرام مع ما أعطاهم من المكانة والمنزلة والاختيار والاصطفاء! مع ذلك لولا أنه تبارك وتعالى يسددهم ويوجههم ويرشدهم ويذكرهم ويعظهم؛ لما كانوا بما كانوا عليه, ووصلوا إليه، فهذا المضمون وهذه العبرة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لأن نأخذها.